فصل: فصــل:في الفيء ومصرفه

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **


/ فصــل

القسم الثاني من الأمانات‏:‏ الأموال، كما قال تعإلى في الديون‏:‏ ‏{‏فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللّهَ رَبَّهُ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 283‏]‏‏.‏

ويدخل في هذا القسم‏:‏ الأعيان، والديون الخاصة، والعامة‏:‏ مثل رد الودائع، ومال الشريك، والموكل، والمضارب، ومال المولي من اليتيم، وأهل الوقف ونحو ذلك، وكذلك وفاء الديون من أثمان المبيعات، وبدل القرض، وصدقات النساء، وأجور المنافع، ونحو ذلك‏.‏ وقد قال اللّه تعإلى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا إِلَّا الْمُصلىنَ الَّذِينَ هُمْ على صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ وَالَّذِينَ هُم مِّنْ عَذَابِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَّا على أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغَي وَرَاء ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ‏}‏ ‏[‏المعارج‏:‏ 19‏:‏ 32‏]‏‏.‏ وقال تعإلى‏:‏ ‏{‏إِنَّا أَنزَلْنَا إليكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّهُ وَلاَ تَكُن لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيمًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 105‏]‏ أي‏:‏ لا تخاصم عنهم‏.‏ وقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أد الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك‏)‏‏.‏ وقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏المؤمن من أمنه المسلمون على دمائهم وأموالهم،والمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما /نهى اللّه عنه، والمجاهد من جاهد نفسه في ذات اللّه‏)‏‏.‏ وهو حديث صحيح بعضه في الصحيحين، وبعضه في سنن الترمذي،وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من أخذ أموال الناس يريد أداءها، أداها اللّه عنه، ومن أخذها يريد إتلافها، أتلفه اللّه‏)‏‏.‏ رواه البخاري‏.‏

وإذا كان اللّه قد أوجب أداء الأمانات التي قبضت بحق، ففيه تنبيه على وجوب أداء الغصب والسرقة والخيانة ونحو ذلك من المظالم‏.‏ وكذلك أداء العارية‏.‏ وقد خطب النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، وقال في خطبته‏:‏ ‏(‏العارية مؤداة، والمنحة مردودة، والدين مقضي، والزعيم غارم، إن اللّه قد أعطي كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث‏)‏‏.‏

وهذا القسم يتناول الولاة والرعية، فعلى كل منهما أن يؤدي إلى الآخر ما يجب أداؤه إليه، فعلى ذي السلطان ونوابه في العطاء، أن يؤتوا كل ذي حق حقه‏.‏ وعلى جباة الأموال كأهل الديوان أن يؤدوا إلى ذي السلطان ما يجب إيتاؤه إليه؛ وكذلك على الرعية الذين تجب عليهم الحقوق، وليس للرعية أن يطلبوا من ولاة الأموال ما لا يستحقونه، فيكونون من جنس من قال اللّه ـ تعإلى ـ فيه‏:‏ ‏{‏وَمِنْهُم مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُواْ مِنْهَا رَضُواْ وَإِن لَّمْ يُعْطَوْاْ مِنهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوْاْ مَا آتَاهُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ سَيُؤْتِينَا اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إلى اللّهِ رَاغِبُونَ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 58، 59‏]‏، ثم بين ـ سبحانه ـ لمن تكون / بقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عليها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عليمٌ حَكِيمٌ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 60‏]‏‏.‏

ولا لهم أن يمنعوا السلطان ما يجب دفعه إليه من الحقوق، وإن كان ظالماً، كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم، لما ذكر جور الولاة، فقال‏:‏ ‏(‏أدوا إليهم الذي لهم، فإن اللّه سائلهم عما استرعاهم‏)‏‏.‏ ففي الصحيحين عن أبي هريرة ـ رضي اللّه عنه ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء، كلما هلك نبي، خلفه نبي، وإنه لا نبي بعدي، وسيكون خلفاء ويكثرون‏)‏‏.‏ قالوا‏:‏ فما تأمرنا‏؟‏ فقال‏:‏ ‏(‏أوفوا ببيعة الأول فالأول، ثم أعطوهم حقهم، فإن اللّه سائلهم عما استرعاهم‏)‏‏.‏

وفيهما عن ابن مسعود ـ رضي اللّه عنه ـ قال‏:‏ قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إنكم سترون بعدي أثرة وأمورا تنكرونها‏)‏‏.‏ قالوا‏:‏ فما تأمرنا به يا رسول اللّه ‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏أدوا إليهم حقهم، واسألوا اللّه حقكم‏)‏‏.‏

وليس لولاة الأمور أن يقسموها بحسب أهوائهم، كما يقسم المالك ملكه، فإنما هم أمناء ونواب ووكلاء، ليسوا ملاكا، كما قال رسول اللّه /صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إني ـ واللّه ـ لا أعطي أحدا، ولا أمنع أحدا، وإنما أنا قاسم أضع حيث أمرت‏)‏‏.‏ رواه البخاري‏.‏ وعن أبي هريرة ـ رضي اللّه عنه ـ نحوه‏.‏ فهذا رسول رب العالمين قد أخبر أنه ليس المنع والعطاء بإرادته واختياره، كما يفعل ذلك المالك الذي أبيح له التصرف في ماله، وكما يفعل ذلك الملوك الذين يعطون من أحبوا، ويمنعون من أبغضوا وإنما هو عبد اللّه، يقسم المال بأمره، فيضعه حيث أمره اللّه ـ تعإلى‏.‏

وهكذا قال رجل لعمر بن الخطاب‏:‏ يا أمير المؤمنين، لو وسعت على نفسك في النفقة من مال اللّه ـ تعإلى‏.‏ فقال له عمر‏:‏ أتدري ما مثلي ومثل هؤلاء‏؟‏ كمثل قوم كانوا في سفر، فجمعوا منهم مالا، وسلموه إلى واحد ينفقه عليهم، فهل يحل لذلك الرجل أن يستأثر عنهم من أموالهم‏؟‏‏.‏ وحمل مرة إلى عمر بن الخطاب ـ رضي اللّه عنه ـ مال عظيم من الخمس، فقال‏:‏ إن قوماً أدوا الأمانة في هذا لأمناء‏.‏ فقال له بعض الحاضرين‏:‏ إنك أديت الأمانة إلى اللّه ـ تعإلى ـ فأدوا إليك الأمانة، ولو رتعت لرتعوا‏.‏

وينبغي أن يعرف أن أولي الأمر كالسوق، ما نفق فيه جلب إليه، هكذا قال عمر بن عبد العزيز ـ رضي اللّه عنه ـ فإن نفق فيه الصدق والبر والعدل والأمانة، جلب إليه ذلك؛ وإن نفق فيه الكذب والفجور /والجور والخيانة، جلب إليه ذلك‏.‏ والذي على ولي الأمر، أن يأخذ المال من حله، ويضعه في حقه، ولا يمنعه من مستحقه، وكان على بن أبي طالب ـ رضي اللّه عنه ـ إذا بلغه أن بعض نوابه ظلم، يقول‏:‏ اللهم إني لم آمرهم أن يظلموا خلقك، ولا يتركوا حقك‏.‏

 فصــل

الأموال السلطانية التي أصلها في الكتاب والسنة ثلاثة أصناف‏:‏ الغنيمة، والصدقة، والفيء‏.‏

فأما الغنيمة، فهي المال المأخوذ من الكفار بالقتال، ذكرها اللّه في ‏[‏سورة الأنفال‏]‏ التي أنزلها في غزوة بدر، وسماها أنفالا؛ لأنها زيادة في أموال المسلمين، فقال‏:‏ ‏{‏يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ قُلِ الأَنفَالُ لِلّهِ وَالرَّسُولِ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَي واليتَامَي وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ‏}‏ الآية ‏[‏الأنفال‏:‏ 1 - 41‏]‏‏.‏ وقال‏:‏ ‏{‏فَكُلُواْ مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلاَلاً طَيِّبًا وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 69‏]‏‏.‏

وفي الصحيحين عن جابر بن عبد اللّه ـ رضي اللّه عنهما ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏أعطيت خمسا لم يعطهن نبي قبلي‏:‏ نصرت /بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهوراً، فأيما رجل من أمتى أدركته الصلاة، فليصل، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس عامة‏)‏‏.‏ وقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏بعثت بالسيف بين يدي الساعة، حتى يعبد اللّه وحده لا شريك له، وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعل الذل والصغار على من خالف أمري، ومن تشبه بقوم فهو منهم‏)‏‏.‏ رواه أحمد في المسند عن ابن عمر، واستشهد به البخاري‏.‏

فالواجب في المغنم تخميسه، وصرف الخمس إلى من ذكره ـ اللّه تعإلى ـ وقسمة الباقي بين الغانمين‏.‏ قال عمر بن الخطاب ـ رضي اللّه عنه ‏:‏ الغنيمة لمن شهد الوقعة‏.‏وهم الذين شهدوها للقتال، قاتلوا أو لم يقاتلوا‏.‏ ويجب قسمها بينهم بالعدل، فلا يحَابي أحد، لا لرياسته، ولا لنسبه، ولا لفضله، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه يقسمونها‏.‏ وفي صحيح البخاري‏:‏ أن سعد بن أبي وقاص ـ رضي اللّه عنه ـ رأي له فضلا على من دونه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏هل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم‏؟‏‏!‏‏)‏‏.‏ وفي مسند أحمد عن سعد بن أبي وقاص، قال‏:‏ قلت‏:‏ يا رسول اللّه، الرجل يكون حامية القوم، يكون سهمه وسهم غيره سواء‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏ثكلتك أمك ابن أم سعد، وهل ترزقون وتنصرون / إلا بضعفائكم‏؟‏‏!‏‏)‏‏.‏

وما زالت الغنائم تقسم بين الغانمين في دولة بني أمية، ودولة بني العباس، لما كان المسلمون يغزون الروم والترك والبربر، لكن يجوز للإمام أن ينفل من ظهر منه زيادة نكاية‏:‏ كَسَرِية تسرت من الجيش، أو رجل صعد حصنا عإلىاً ففتحه، أو حمل على مقدم العدو فقتله، فهزم العدو ونحو ذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاءه كانوا ينفلون لذلك‏.‏

وكان ينفل السرية في البداية الربع بعد الخمس، وفي الرجعة الثلث بعد الخمس‏.‏ وهذا النفل، قال العلماء‏:‏ إنه يكون من الخمس‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ إنه يكون من خمس الخمس؛ لئلا يفضل بعض الغانمين على بعض‏.‏ والصحيح أنه يجوز من أربعة الأخماس، وإن كان فيه تفضيل بعضهم على بعض لمصلحة دينية، لا لهوي النفس، كما فعل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم غير مرة‏.‏ وهذا قول فقهاء الشام، وأبي حنيفة، وأحمد، وغيرهم، وعلى هذا فقد قيل‏:‏ إنه ينفل الربع والثلث بشرط وغير شرط، وينفل الزيادة على ذلك بالشرط، مثل أن يقول‏:‏ من دلني على قلعة، فله كذا، أو من جاءني برأس، فله كذا ونحو ذلك‏.‏ وقيل‏:‏ لا ينفل زيادة على الثلث، ولا ينفله إلا بالشرط‏.‏ وهذان قولان لأحمد وغيره‏.‏ وكذلك ـ على القول الصحيح ـ /للإمام أن يقول‏:‏ من أخذ شيئاً، فهو له، كما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قد قال ذلك في غزوة بدر، إذا رأي ذلك مصلحة راجحة على المفسدة‏.‏

وإذا كان الإمام يجمع الغنائم ويقسمها، لم يجز لأحد أن يغل منها شيئاً‏.‏ ‏{‏وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 161‏]‏، فـإن الغلول خيانة، ولا تجوز النهبة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عنها‏.‏ فـإذا ترك الإمام الجمع والقسمة، وأذن في الأخذ إذنًا جائزًا، فمن أخـذ شيئًا بـلا عدوان، حل له بعد تخميسه، وكل ما دل على الإذن، فهو إذن‏.‏ وأما إذا لم يأذن أو أذن إذنًا غير جائز، جاز للإنسان أن يأخذ مقدار ما يصيبه بالقسمة، متحريا للعدل في ذلك‏.‏

ومن حرم على المسلمين جمع الغنائم ـ والحال هذه ـ وأباح للإمام أن يفعل فيها ما يشاء، فقد تقابل القولان تقابل الطرفين، ودين الله وسط‏.‏ والعدل في القسمة‏:‏ أن يقسم للراجل سهم، وللفارس ذي الفرس العربي ثلاثة أسهم‏:‏ سهم له، وسهمان لفرسه، هكذا قسم النبي صلى الله عليه وسلم عام خيبر‏.‏ ومن الفقهاء من يقول‏:‏ للفارس سهمان‏.‏ والأول هو الذي دلت عليه السنة الصحيحة،ولأن الفرس يحتاج إلى مؤونة نفسه وسائسه، ومنفعة الفارس به أكثر من منفعة راجلين‏.‏ومنهم من يقول‏:‏ يسوي بين الفرس العربي والهجين / في هذا‏.‏ ومنهم من يقول‏:‏ بل الهجين يسهم له سهم واحد، كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه‏.‏ والفرس الهجين‏:‏ الذي تكون أمه نبطية ـ ويسمي البرذون ـ وبعضهم يسميه التتري، سواء كان حصانًا، أو خصيا، ويسمي الأكديش أو رمكة، وهي الحجر، كان السلف يعدون للقتال الحصان؛ لقوته وحدته، وللإغارة والبيات الحجر؛ لأنه ليس لها صهيل ينذر العدو فيحترزون، وللسير الخصي؛ لأنه أصبر على السير‏.‏

وإذا كان المغنوم مالاً ـ قد كان للمسلمين قبل ذلك من عقار أو منقول، وعرف صاحبه قبل القسمة ـ فإنه يرد إليه بإجماع المسلمين‏.‏ وتفاريع المغانم وأحكامها فيها آثار وأقوال اتفق المسلمون على بعضها، وتنازعوا في بعض ذلك، وليس هذا موضعها، وإنما الغرض ذكر الجمل الجامعة‏.‏

 فصــل

وأما الصدقات، فهي لمن سمي الله ـ تعإلى ـ في كتابه، فقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ أن رجلاً سأله من الصدقة، فقال‏:‏ ‏(‏إن الله لم يرض في الصدقة بقسم نبي ولا غيره، ولكن جزأها ثمانية أجزاء، فإن/ كنت من تلك الأجزاء أعطيتك‏)‏‏.‏

فـ ‏[‏الفقراء والمساكين‏]‏‏:‏ يجمعهما معني الحاجة إلى الكفاية، فلا تحل الصدقة لغني، ولا لقوي مكتسب‏.‏ و‏[‏العاملين عليها‏]‏ هم الذين يجبونها، ويحفظونها، ويكتبونها، ونحو ذلك‏.‏ و‏[‏المؤلفة قلوبهم‏]‏ فنذكرهم ـ إن شاء الله تعإلى ـ في مال الفيء‏.‏ و‏[‏في الرقاب‏]‏، يدخل فيه إعانة المكاتبين، وافتداء الأسري، وعتق الرقاب‏.‏ هذا أقوي الأقوال فيها‏.‏ و‏[‏الغارمين‏]‏، هم الذين عليهم ديون لا يجدون وفاءها‏.‏ فيعطون وفاء ديونهم، ولو كان كثيرًا، إلا أن يكونوا غرموه في معصية الله ـ تعإلى ـ فلا يعطون حتى يتوبوا‏.‏ و‏[‏في سبيل الله‏]‏ وهم الغزاة، الذين لا يعطون من مال الله ما يكفيهم لغزوهم، فيعطون ما يغزون به، أو تمام ما يغزون به، من خيل وسلاح ونفقة وأجرة، والحج من سبيل الله، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ و‏[‏ابن السبيل‏]‏ هو المجتاز من بلد إلى بلد‏.‏

 فصــل

وأما الفيء، فأصله ما ذكره الله ـ تعإلى ـ في سورة الحشر، التي أنزلها الله في غزوة بني النضير، بعد بدر، من قوله تعإلى‏:‏‏{‏وَمَا أَفَاء اللَّهُ على رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عليه مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ على مَن يَشَاء وَاللَّهُ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ مَّا أَفَاء اللَّهُ على رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَي فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَي وَإلىتَامَي وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاء مِنكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إليهمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ على أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ‏}‏ ‏[‏الحشر‏:‏ 6 - 10‏]‏‏.‏

فذكر ـ سبحانه وتعإلى ـ المهاجرين والأنصار، والذين جاؤوا من بعدهم على ما وصف، فدخل في الصنف الثالث كل من جاء على هذا الوجه إلى يوم القيامة، كما دخلوا في قوله تعإلى‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ آمَنُواْ مِن بَعْدُ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ مَعَكُمْ فَأُوْلَـئِكَ مِنكُمْ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏75‏]‏، وفي قوله‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 100‏]‏، وفي قوله‏:‏ ‏{‏وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ‏}‏ ‏[‏الجمعة‏:‏ 3‏]‏‏.‏

ومعني قوله‏:‏‏{‏فَمَا أَوْجَفْتُمْ عليه مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ‏}‏ أي‏:‏ما /حركتم ولا سقتم خيلاً ولا إبلاً؛ ولهذا قال الفقهاء‏:‏ إن الفيء هو ما أخذ من الكفار بغير قتال؛ لأن إيجاف الخيل والركاب هو معني القتال‏.‏ وسمي فيئًا؛ لأن الله أفاءه على المسلمين، أي‏:‏ رده عليهم من الكفار، فإن الأصل أن الله ـ تعإلى ـ إنما خلق الأموال إعانة على عبادته؛ لأنه إنما خلق الخلق لعبادته‏.‏ فالكافرون به أباح أنفسهم التي لم يعبدوه بها، وأموالهم التي لم يستعينوا بها على عبادته، لعباده المؤمنين الذين يعبدونه، وأفاء إليهم ما يستحقونه، كما يعاد على الرجل ما غصب من ميراثه، وإن لم يكن قبضه قبل ذلك، وهذا مثل الجزية التي على إليهود والنصاري، والمال الذي يصالح عليه العدو، أو يهدونه إلى سلطان المسلمين، كالحمل الذي يحمل من بلاد النصاري ونحوهم، وما يؤخذ من تجار أهل الحرب، وهو العشر، ومن تجار أهل الذمة إذا اتجروا في غير بلادهم، وهو نصف العشر‏.‏ هكذا كان عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ يأخذ‏.‏ وما يؤخذ من أموال من ينقض العهد منهم، والخراج الذي كان مضروبًا في الأصل عليهم، وإن كان قد صار بعضه على بعض المسلمين‏.‏

ثم إنه يجتمع من الفيء جميع الأموال السلطانية لبيت مال المسلمين‏:‏ كالأموال التي ليس لها مالك معين، مثل من مات من المسلمين وليس له وارث معين، وكالغصوب، والعواري، والودائع / التي تعذر معرفة أصحابها، وغير ذلك من أموال المسلمين، العقار والمنقول‏.‏ فهذا ونحوه مال المسلمين، وإنما ذكر الله ـ تعإلى ـ في القرآن الفيء فقط؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ما كان يموت على عهده ميت، إلا وله وارث معين لظهور الأنساب في أصحابه، وقد مات مرة رجل من قبيلة فدفع ميراثه إلى أكبر رجل من تلك القبيلة، أي‏:‏ أقربهم نسبًا إلى جدهم، وقد قال بذلك طائفة من العلماء، كأحمد في قول منصوص وغيره‏.‏ ومات رجل لم يخلف إلا عتيقًا له، فدفع ميراثه إلى عتيقه، وقال بذلك طائفة من أصحاب أحمد وغيرهم‏.‏ ودفع ميراث رجل إلى رجل من أهل قريته، وكان صلى الله عليه وسلم هو وخلفاؤه يتوسعون في دفع ميراث الميت إلى من بينه وبينه نسب، كما ذكرناه‏.‏

ولم يكن يأخذ من المسلمين إلا الصدفات، وكان يأمرهم أن يجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم، كما أمر الله به في كتابه‏.‏

ولم يكن للأموال المقبوضة والمقسومة ديوان جامع على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر ـ رضي الله عنه ـ بل كان يقسم المال شيئًا فشيئًا، فلما كان في زمن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ كثر المال، واتسعت البلاد، وكثر الناس، فجعل ديوان العطاء للمقاتلة وغيرهم وديوان الجيش ـ في هذا الزمان ـ مشتمل على / أكثره، وذلك الديوان هو أهم دواوين المسلمين‏.‏ وكان للأمصار دواوين الخراج والفيء وما يقبض من الأموال، كان النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه يحاسبون العمال على الصدقات، والفيء، وغير ذلك‏.‏

فصارت الأموال في هذا الزمان وما قبله ثلاثة أنواع‏:‏ نوع يستحق الإمام قبضه بالكتاب والسنة والإجماع ـ كما ذكرناه‏.‏ ونوع يحرم أخذه بالإجماع، كالجبايات التي تؤخذ من أهل القرية لبيت المال؛ لأجل قتيل قتل بينهم، وإن كان له وارث، أو على حد ارتكبه، وتسقط عنه العقوبة بذلك، وكالمكوس التي لا يسوغ وضعها اتفاقًا‏.‏ ونوع فيه اجتهاد وتنازع كمال من له ذو رحم، وليس بذي فرض ولا عصبة، ونحو ذلك‏.‏

وكثيرًا ما يقع الظلم من الولاة والرعية، هؤلاء يأخذون ما لا يحل، وهؤلاء يمنعون ما يجب، كما قد يتظالم الجند والفلاحون، وكما قد يترك بعض الناس من الجهاد ما يجب، ويكنز الولاة من مال الله ما لا يحل كنزه‏.‏ وكذلك العقوبات على أداء الأموال؛ فإنه قد يترك منها ما يباح أو يجب، وقد يفعل ما لا يحل‏.‏

والأصل في ذلك‏:‏أن كل من عليه مال،يجب أداؤه،كرجل / عنده وديعة، أو مضاربة، أو شركة، أو مال لموكله، أو مال يتيم، أو مال وقف، أو مال لبيت المال، أو عنده دين وهو قادر على أدائه، فإنه اذا امتنع من أداء الحق الواجب، من عين، أو دين، وعرف أنه قادر على أدائه، فإنه يستحق العقوبة، حتى يظهر المال، أو يدل على موضعه‏.‏ فإذا عرف المال، وصبر على الحبس، فإنه يستوفي الحق من المال، ولا حاجة إلى ضربه‏.‏ وإن امتنع من الدلالة على ماله ومن الإيفاء، ضرب حتى يؤدي الحق أو يمكن من أدائه‏.‏ وكذلك لو امتنع من أداء النفقة الواجبة عليه مع القدرة عليها، لما روي عمرو بن الشَرِيد عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال‏:‏ ‏(‏لي الواجد يحل عرضه وعقوبته‏)‏‏.‏ رواه أهل السنن‏.‏ وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏مطل الغني ظلم‏)‏‏.‏ أخرجاه في الصحيحين، و ‏[‏اللي‏]‏ هو المطل‏:‏ والظالم يستحق العقوبة والتعزير‏.‏

وهذا أصل متفق عليه إن كل من فعل محرمًا، أو ترك واجبًا، استحق العقوبة؛ فإن لم تكن مقدرة بالشرع، كان تعزيرًا يجتهد فيه ولي الأمر، فيعاقب الغني المماطل بالحبس، فإن أصر، عوقب بالضرب حتى يؤدي الواجب، وقد نص على ذلك الفقهاء من أصحاب مالك، والشافعي، وأحمد، وغيرهم ـ رضي الله عنهم ـ ولا أعلم فيه خلافًا‏.‏

وقد روي البخاري في صحيحه عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ أن/النبي صلى الله عليه وسلم لما صالح أهل خيبر على الصفراء والبيضاء والسلاح، سأل بعض إليهود ـ وهو سعية عم حيي بن أخطب ـ عن كنز مال حيي بن أخطب‏.‏ فقال‏:‏ أذهبته النفقات والحروب، فقال‏:‏ ‏[‏العهد قريب، والمال أكثر من ذلك‏]‏، فدفع النبي صلى الله عليه وسلم سعية إلى الزبير، فمسه بعذاب، فقال‏:‏ قد رأيت حييا يطوف في خربة هاهنا، فذهبوا فطافوا، فوجدوا المسك في الخربة، وهذا الرجل كان ذميا، والذمي لا تحل عقوبته إلا بحق‏.‏ وكذلك كل من كتم ما يجب إظهاره من دلالة واجبة ونحو ذلك، يعاقب على ترك الواجب‏.‏

وما أخذه العمال وغيرهم من مال المسلمين بغير حق، فلولي الأمر العادل استخراجه منهم، كالهدايا التي يأخذونها بسبب العمل‏.‏ قال أبو سعيد الخدري ـ رضي الله عنه‏:‏ هدايا العمال غلول‏.‏ وروي إبراهيم الحربي ـ في كتاب الهدايا ـ عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏ هدايا الأمراء غلول ‏)‏‏.‏ وفي الصحيحين عن أبي حميد الساعدي ـ رضي الله عنه ـ قال‏:‏ استعمل النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً من الأزد، يقال له‏:‏ ابن اللتبية على الصدقة، فلما قدم، قال‏:‏ هذا لكم، وهذا أهدي إلى‏.‏ فقال النبي صلى الله عليه وسلم ‏:‏‏(‏ما بال الرجل نستعمله على العمل مما /ولانا الله، فيقول‏:‏ هذا لكم، وهذا أهدي إلى‏؟‏ فهلا جلس في بيت أبيه، أو بيت أمه، فينظر أيهدي إليه أم لا‏؟‏ والذي نفسي بيده لا يأخذ منه شيئًا، إلا جاء به يوم القيامة يحمله على رقبته؛ إن كان بعيرًا له رغاء، أو بقرة لها خوار، أو شاة تيعر‏)‏، ثم رفع يديه حتى رأينا عفرتي إبطيه، ثم قال‏:‏ ‏(‏اللهم هل بلغت‏؟‏ اللهم هل بلغت‏؟‏ اللهم هل بلغت‏؟‏‏)‏ ثلاثًا‏.‏

وكذلك محاباة الولاة في المعاملة من المبايعة، والمؤاجرة والمضاربة، والمساقاة والمزارعة، ونحو ذلك هو من نوع الهدية؛ ولهذا شاطر عمر بن الخطاب ـ رضي اللّه عنه ـ من عماله من كان له فضل ودين، لا يتهم بخيانة، وإنما شاطرهم لما كانوا خصوا به لأجل الولاية من محاباة وغيرها، وكان الأمر يقتضي ذلك؛ لأنه كان إمام عدل، يقسم بالسوية‏.‏

فلما تغير الإمام والرعية، كان الواجب على كل إنسان أن يفعل من الواجب ما يقدر عليه، ويترك ما حرم عليه، ولا يحرم عليه ما أباح اللّه له‏.‏

وقد يبتلي الناس من الولاة بمن يمتنع من الهدية ونحوها؛ ليتمكن بذلك من استيفاء المظالم منهم، ويترك ما أوجبه اللّه من قضاء حوائجهم،/ فيكون من أخذ منهم عوضاً على كف ظلم وقضاء حاجة مباحة أحب إليهم من هذا، فإن الأول قد باع آخرته بدنيا غيره، وأخسر الناس صفقة من باع آخرته بدنيا غيره‏.‏ وإنما الواجب كف الظلم عنهم بحسب القدرة، وقضاء حوائجهم التي لا تتم مصلحة الناس إلا بها‏:‏ من تبليغ ذي السلطان حاجاتهم، وتعريفه بأمورهم، ودلالته على مصالحهم، وصرفه عن مفاسدهم، بأنواع الطرق اللطيفة وغير اللطيفة، كما يفعل ذوو الأغراض من الكتاب ونحوهم في أغراضهم‏.‏

ففي حديث هند بن أبي هالة ـ رضي اللّه عنه ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه كان يقول‏:‏ ‏(‏أبلغوني حاجة من لا يستطيع إبلاغها، فإنه من أبلغ ذا سلطان حاجة من لا يستطيع إبلاغها، ثبت اللّه قدميه على الصراط يوم تزل الأقدام‏)‏‏.‏ وقد روي الإمام أحمد، وأبو داود في سننه، عن أبي أمامة الباهلي ـ رضي اللّه عنه ـ قال‏:‏ قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من شفع لأخيه شفاعة، فأهدي له عليها هدية فقبلها، فقد أتي بابًا عظيما من أبواب الربا‏)‏‏.‏ وروي إبراهيم الحربي عن عبد اللّه بن مسعود ـ رضي اللّه عنه ـ قال‏:‏ السحت أن يطلب الحاجة للرجل، فتقضي له، فيهدي إليه هدية، فيقبلها‏.‏ وروي ـ أيضا ـ عن مسروق‏:‏ أنه كلم ابن زياد في مظلمة فردها، فأهدي له صاحبها وصيفا، فرده عليه، وقال‏:‏ سمعت ابن مسعود يقول‏:‏من / رد عـن مسلـم مظلمـة،فـرزأه عليها قليـلا أو كثيـرا،فهـو سـحت‏.‏ فقلـت‏:‏ يا أبا عبد الرحمن، ما كنا نري السحت إلا الرشوة في الحكم، قال‏:‏ ذاك كفر‏.‏

فأما إذا كان ولي الأمر يستخرج من العمال ما يريد أن يختص به هو وذووه، فلا ينبغي إعانة واحد منهما، إذ كل منهما ظالم، كلص سرق من لص، وكالطائفتين المقتتلتين على عصبية ورئاسة، ولا يحل للرجل أن يكون عونا على ظلم، فإن التعاون نوعان‏:‏

الأول‏:‏ تعاون على البر والتقوي‏:‏ من الجهاد، وإقامة الحدود، واستيفاء الحقوق، وإعطاء المستحقين، فهذا مما أمر اللّه به ورسوله‏.‏ ومن أمسك عنه خشية أن يكون من أعوان الظلمة، فقد ترك فرضاً على الأعيان، أو على الكفاية، متوهماً أنه متورع‏.‏ وما أكثر ما يشتبه الجبن والفشل بالورع؛ إذ كل منهما كف وإمساك‏.‏

والثاني‏:‏ تعاون على الإثم والعدوان، كالإعانة على دم معصوم، أو أخذ مال معصوم، أو ضرب من لا يستحق الضرب، ونحو ذلك، فهذا الذي حرمه اللّه ورسوله‏.‏

نعم، إذا كانت الأموال قد أخذت بغير حق، وقد تعذر ردها إلى أصحابها، ككثير من الأموال السلطانية، فالإعانة على صرف هذه / الأموال في مصالح المسلمين كسداد الثغور، ونفقة المقاتلة، ونحو ذلك من الإعانة على البر والتقوي؛ إذ الواجب على السلطان في هذه الأموال ـ إذا لم يمكن معرفة أصحابها وردها عليهم، ولا على ورثتهم ـ أن يصرفها ـ مع التوبة، إن كان هو الظالم ـ إلى مصالح المسلمين‏.‏ هذا هو قول جمهور العلماء، كمالك، وأبي حنيفة، وأحمد، وهو منقول عن غير واحد من الصحابة، وعلى ذلك دلت الأدلة الشرعية، كما هو منصوص في موضع آخر‏.‏

وإن كان غيره قد أخذها، فعليه هو أن يفعل بها ذلك، وكذلك لو امتنع السلطان من ردها، كانت الإعانة على إنفاقها في مصالح أصحابها أولي من تركها بيد من يضيعها على أصحابها، وعلى المسلمين‏.‏

فإن مدار الشريعة على قوله تعإلى‏:‏ ‏{‏فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ‏}‏ ‏[‏التغابن‏:‏ 16‏]‏ المفسر لقوله‏:‏ ‏{‏اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 102‏]‏، وعلى قول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إذا أمرتكم بأمر، فأتوا منه ما استطعتم‏)‏‏.‏ أخرجاه في الصحيحين‏.‏ وعلى أن الواجب تحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها‏.‏ فإذا تعارضت، كان تحصيل أعظم المصلحتىن بتفويت أدناهما ودفع أعظم المفسدتين مع احتمال أدناهما هو المشروع‏.‏

والمعين على الإثم والعدوان من أعان الظالم على ظلمه، أما من / أعان المظلوم على تخفيف الظلم عنه، أو على أداء المظلمة، فهو وكيل المظلوم، لا وكيل الظالم، بمنزلة الذي يقرضه، أو الذي يتوكل في حمل المال له إلى الظالم‏.‏ مثال ذلك ولي اليتيم والوقف، إذا طلب ظالم منه مالا، فاجتهد في دفع ذلك بمال أقل منه إليه، أو إلى غيره بعد الاجتهاد التام في الدفع فهو محسن، وما على المحسنين من سبيل‏.‏

وكذلك وكيل المالك من المنادين والكتاب وغيرهم، الذي يتوكل لهم في العقد والقبض، ودفع ما يطلب منهم، لا يتوكل للظالمين في الأخذ‏.‏

وكذلك لو وضعت مظلمة على أهل قرية أو درب أو سوق أو مدينة، فتوسط رجل منهم محسن في الدفع عنهم بغاية الإمكان وقسطها بينهم على قدر طاقتهم، من غير محاباة لنفسه ولا لغيره، ولا ارتشاء، بل توكل لهم في الدفع عنهم، والإعطاء، كان محسناً، لكن الغالب أن من يدخل في ذلك يكون وكيل الظالمين محابيا مرتشيا مخفراً لمن يريد، وآخذاً ممن يريد‏.‏ وهذا من أكبر الظلمة، الذين يحشرون في توابيت من نار، هم وأعوانهم وأشباههم، ثم يقذفون في النار‏.‏

/ فصــل

وأما المصارف، فالواجب أن يبدأ في القسمة بالأهم فالأهم من مصالح المسلمين العامة، كعطاء من يحصل للمسلمين به منفعة عامة‏.‏

فمنهم المقاتلة، الذين هم أهل النصرة والجهاد، وهم أحق الناس بالفيء، فإنه لا يحصل إلا بهم؛ حتى اختلف الفقهاء في مال الفيء‏:‏ هل هو مختص بهم، أو مشترك في جميع المصالح‏؟‏ وأما سائر الأموال السلطانية، فلجميع المصالح وفاقا، إلا ما خص به نوع، كالصدقات والمغنم‏.‏

ومن المستحقين ذوو الولايات عليهم‏:‏ كالولاة، والقضاة، والعلماء، والسعاة على المال‏:‏ جمعا، وحفظا، وقسمة، ونحو ذلك، حتى أئمة الصلاة والمؤذنين ونحو ذلك‏.‏

وكذا صرفـه في الأثمان والأجـور، لما يعـم نفعـه‏:‏ من سـداد الثغور بالكراع، والسلاح، وعمارة ما يحتاج إلى عمارته من طرقات الناس‏:‏ كالجسور والقناطر، وطرقات المياه كالأنهار‏.‏

ومن المستحقين‏:‏ذوو الحاجات،فإن الفقهاء قد اختلفوا‏:‏هل يقدمون /في غير الصدقات، من الفيء ونحوه على غيرهم‏؟‏ على قولين في مذهب أحمد وغيره، منهم من قال‏:‏ يقدمون، ومنهم من قال‏:‏ المال استحق بالإسلام، فيشتركون فيه، كما يشترك الورثة في الميراث‏.‏ والصحيح أنهم يقدمون، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقدم ذوي الحاجات، كما قدمهم في مال بني النضير، وقال عمر بن الخطاب ـ رضي اللّه عنه‏:‏ ليس أحد أحق بهذا المال من أحد، إنما هو الرجل وسابقته، والرجل وغناؤه، والرجل وبلاؤه، والرجل وحاجته‏.‏ فجعلهم عمر ـ رضي اللّه عنه ـ أربعة أقسام‏:‏

الأول‏:‏ ذوو السوابق الذين بسابقتهم حصل المال‏.‏

الثاني‏:‏ من يغني عن المسلمين في جلب المنافع لهم، كولاة الأمور والعلماء الذين يجتلبون لهم منافع الدين والدنيا‏.‏

الثالث‏:‏ من يبلي بلاء حسناً في دفع الضرر عنهم، كالمجاهدين في سبيل اللّه من الأجناد والعيون من القصاد والناصحين ونحوهم‏.‏

الرابع‏:‏ ذوو الحاجات ‏.‏

وإذا حصل من هؤلاء متبرع، فقد أغني اللّه به، وإلا أعطي ما يكفيه، أو قدر عمله‏.‏ وإذا عرفت أن العطاء يكون بحسب منفعة /الرجل، وبحسب حاجته في مال المصالح وفي الصدقات ـ أيضا ـ فما زاد على ذلك لا يستحقه الرجل، إلا كما يستحقه نظراؤه مثل أن يكون شريكا في غنيمة أو ميراث‏.‏

ولا يجوز للإمام أن يعطي أحدا ما لا يستحقه لهوي نفسه‏:‏ من قرابة بينهما، أو مودة، ونحو ذلك، فضلا عن أن يعطيه لأجل منفعة محرمة منه، كعطية المخنثين من الصبيان المردان‏:‏ الأحرار والممإليك ونحوهم، والبغايا والمغنين، والمساخر، ونحو ذلك، أو إعطاء العرافين من الكهان والمنجمين ونحوهم‏.‏

لكـن يجوز ـ بل يجب ـ الإعطاء لتأليف مـن يحتاج إلى تأليف قلبه، وإن كـان هـو لا يحـل لـه أخذ ذلك، كمـا أبـاح اللّه ـ تعـإلى ـ فـي القرآن العطـاء للمؤلفة قـلوبهم مـن الصدقات، وكما كان النبي صلى الله عليه وسلم يعطي المؤلفة قلوبهم من الفيء ونحوه، وهم السادة المطاعون في عشائرهم، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يعطي الأقْرَع بن حابس سيد بني تميم، وعُيَينْة ابن حصن سيد بني فَزَارة، وزيد الخير الطائي سيد بني نبهان، وعلقمة بن عُلاثة العامري سيد بني كلاب، ومثل سادات قريش من الطلقاء‏:‏كصفوان بن أمية، وعكرمة بن أبي جهل، وأبى سفيان بن حرب، وسهيل بن عمرو، والحارث بن هشام، وعدد كثير‏.‏

ففى الصحيحين عن أبى سعيد الخدرى ـ رضى اللّه عنه ـ قال‏:‏ /بعث على وهو باليمن بذهيبة فى تربتها إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، فقسمها رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بين أربعة‏:‏ الأقرع بن حابس الحنظلى، وعُيَيْنَة بن حصن الفزارى، وعلقمة بن عُلاثة العامرى، سيد بنى كلاب، وزيد الخير الطائى، سيد بنى نبهان، قال‏:‏ فغضبت قريش والأنصار، فقالوا‏:‏ يعطى صناديد نجد ويدعنا‏!‏ فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إنى إنما فعلت ذلك لتأليفهم‏)‏، فجاء رجل كث اللحية، مشرف الوجنتين، غائر العينين، ناتئ الجبين، محلوق الرأس، فقال‏:‏ اتق اللّه يا محمد‏.‏ فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏فمن يتق اللّه إن عصيته‏؟‏ أيأمننى على أهل الأرض ولا تأمنونى‏؟‏‏!‏‏)‏، قال‏:‏ ثم أدبر الرجل، فاستأذن رجل من القوم فى قتله، ويرون أنه خالد بن الوليد، فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن من ضئضئ هذا قوماً يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يقتلون أهل الإسلام، ويدعون أهل الأوثان، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد‏)‏‏.‏

وعن رافع بن خُدَيْج ـ رضى اللّه عنه ـ قال‏:‏ أعطى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أبا سفيان بن حرب، وصفوان بن أمية، وعيينة بن حصن، والأقرع بن حابس، كل إنسان منهم مائة من الإبل، وأعطى عباس بن مرداس دون ذلك، فقال عباس بن مرداس‏:‏

قال‏:‏ فأتم له رسول اللّه صلى الله عليه وسلم مائة‏.‏ رواه مسلم‏.‏ و‏[‏العبيد‏]‏ اسم فرس له‏.‏

و ‏[‏المؤلفة قلوبهم‏]‏ نوعان‏:‏ كافر ومسلم؛ فالكافر إما أن يرجى بعطيته منفعة‏:‏ كإسلامه؛ أو دفع مضرته، إذا لم يندفع إلا بذلك‏.‏ والمسلم المطاع يرجى بعطيته المنفعة ـ أيضاً ـ كحسن إسلامه‏.‏ أو إسلام نظيره، أو جباية المال ممن لا يعطيه إلا لخوف، أو النكاية فى العدو، أو كف ضرره عن المسلمين، إذا لم ينكف إلا بذلك‏.‏

وهـذا النوع مـن العطاء، وإن كـان ظاهره إعطـاء الرؤساء وترك الضعفاء، كمـا يفعل الملوك، فالأعمال بالنيات؛ فإذا كان القصد بذلك مصلحة الدين وأهله، كان من جنس عطاء النبى صلى الله عليه وسلم وخلفائه، وإن كان المقصود العلو فى الأرض والفساد، كان من جنس عطاء فرعون؛ وإنما ينكره ذوو الدين الفاسد كذى الخويصرة الذى أنكره على النبى صلى الله عليه وسلم، حتى قال فيه ما قال، وكذلك حزبه الخوارج أنكروا على أمير المؤمنين على ـ رضى اللّه عنه ـ ما قصد / به المصلحة من التحكيم، ومحو اسمه، وما تركه من سبى نساء المسلمين وصبيانهم‏.‏

وهؤلاء أمر النبى صلى الله عليه وسلم بقتالهم؛ لأن معهم ديناً فاسدا لا يصلح به دنيا ولا آخرة، وكثيرا ما يشتبه الورع الفاسد بالجبن والبخل؛ فإن كلاهما فيه ترك، فيشتبه ترك الفسـاد؛ لخشية اللّه ـ تعالى ـ بترك ما يؤمر به من الجهاد والنفقة‏:‏ جبناً وبخـلا‏.‏ وقد قال النبى صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏شر ما فى المرء شح هالع وجبن خالع‏)‏‏.‏ قال الترمذى‏:‏ حديث صحيح‏.‏

وكذلك قد يترك الإنسان العمل ظناً، أو إظهاراً أنه ورع، وإنما هو كبر وإرادة للعلو، وقول النبى صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إنما الأعمال بالنيات‏)‏، كلمة جامعة كاملة، فإن النية للعمل، كالروح للجسد، وإلا فكل واحد من الساجد للّه، والساجد للشمس والقمر، قد وضع جبهته على الأرض، فصورتهما واحدة، ثم هذا أقرب الخلق إلى اللّه ـ تعالى، وهذا أبعد الخلق عن اللّه‏.‏ وقد قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ‏}‏ ‏[‏البلد‏:‏ 17‏]‏‏.‏ وفى الأثر‏:‏ أفضل الإيمان السماحة والصبر‏.‏ فلا تتم رعاية الخلق وسياستهم إلا بالجود، الذى هو العطاء، والنجدة، التى هى الشجاعة، بل لا يصلح الدين والدنيا إلا بذلك‏.‏

ولهذا كان من لا يقوم بهما سلبه الأمر، ونقله إلى غيره، كما قال/ اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ‏}‏ ‏[‏التـوبــة‏:‏ 38، 39‏]‏، وقـال تعالـى‏:‏ ‏{‏هَاأَنتُمْ هَؤُلَاء تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَاء وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏ 38‏]‏‏.‏وقد قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏ 10‏]‏‏.‏ فعلق الأمر بالإنفاق الذى هو السخاء، والقتال الذى هو الشجاعة‏.‏ وكذلك قال اللّه ـ تعالى ـ فى غير موضع‏:‏ ‏{‏وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 41‏]‏‏.‏

وبين أن البخل من الكبائر فى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَّهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 180‏]‏‏.‏ وفى قوله‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ‏}‏ الآية ‏[‏التوبة‏:‏ 34‏]‏، وكذلك الجبن فى مثل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاء بِغَضَبٍ مِّنَ اللّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 16‏]‏، وفى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ وَمَا هُم مِّنكُمْ وَلَـكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 56‏]‏‏.‏ وهو كثير فى الكتاب والسنة، وهو مما اتفق عليه أهل الأرض، حتى إنهم يقولون فى الأمثال العامية‏:‏ ‏(‏لا طعنة ولا جفنة‏)‏، ويقولون‏:‏ ‏(‏لا فارس الخيل، ولا وجه العرب‏)‏‏.‏

ولكن افترق الناس هنا ثلاث فرق‏:‏ فريق غلب عليهم حب العلو فى الأرض والفساد، فلم ينظروا فى عاقبة المعاد، ورأوا أن السلطان لا يقوم إلا بعطاء، وقد لا يتأتى العطاء إلا باستخراج أموال من غير حلها، فصاروا نهابين وهابين‏.‏ وهؤلاء يقولون‏:‏ لا يمكن أن يتولى على الناس إلا من يأكل ويطعم، فإنه اذا تولى العفيف الذى لا يأكل ولا يطعم سخط عليه الرؤساء وعزلوه، إن لم يضروه فى نفسه وماله‏.‏ وهؤلاء نظروا فى عاجل دنياهم، وأهملوا الآجل من دنياهم وآخرتهم، فعاقبتهم عاقبة رديئة فى الدنيا والآخرة، إن لم يحصل لهم ما يصلح عاقبتهم من توبة ونحوها‏.‏

وفريق عندهم خوف من اللّه ـ تعالى ـ ودين يمنعهم عما يعتقدونه قبيحاً من ظلم الخلق، وفعل المحارم‏.‏ فهذا حسن واجب؛ ولكن قد يعتقدون مع ذلك أن السياسة لا تتم إلا بما يفعله أولئك من الحرام، فيمتنعون عنها مطلقا، وربما لأن فى نفوسهم جبن أو بخل، أو ضيق خلق ينضم إلى ما معهم من الدين، فيقعون أحياناً فى ترك واجب، يكون تركه/ أضر عليهم من بعض المحرمات، أو يقعون فى النهى عن واجب، يكون النهى عنه من الصد عن سبيل اللّه‏.‏ وقد يكونون متأولين‏.‏ وربما اعتقدوا أن إنكار ذلك واجب ولا يتم إلا بالقتال، فيقاتلون المسلمين كما فعلت الخوارج، وهؤلاء لا تصلح بهم الدنيا ولا الدين الكامل، لكن قد يصلح بهم كثير من أنواع الدين وبعض أمور الدنيا‏.‏وقد يعفى عنهم فيما اجتهدوا فيه فأخطؤوا، ويغفر لهم قصورهم‏.‏ وقد يكونون من الأخسرين أعمالا، الذين ضل سعيهم فى الحياة الدنيا، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا‏.‏ وهذه طريقة من لا يأخذ لنفسه، ولا يعطى غيره، ولا يرى أنه يتألف الناس من الكفار والفجار، لا بمال ولا بنفع، ويرى أن إعطاء المؤلفة قلوبهم من نوع الجور والعطاء المحرم‏.‏

الفريق الثالث‏:‏ الأمة الوسط، وهم أهل دين محمد صلى الله عليه وسلم، وخلفاؤه على عامة الناس وخاصتهم إلى يوم القيامة، وهو إنفاق المال والمنافع للناس ـ وإن كانوا رؤساء ـ بحسب الحاجة، إلى صلاح الأحوال، ولإقامة الدين، والدنيا التى يحتاج إليها الدين، وعفته فى نفسه، فلا يأخذ ما لا يستحقه‏.‏ فيجمعون بين التقوى والإحسان ‏{‏إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 128‏]‏‏.‏

ولا تتم السياسة الدينية إلا بهذا، ولا يصلح الدين والدنيا إلا /بهذه الطريقة‏.‏

وهذا هو الذى يطعم الناس ما يحتاجون إلى طعامه، ولا يأكل هو إلا الحلال الطيب، ثم هذا يكفيه من الإنفاق أقل مما يحتاج إليه الأول، فإن الذى يأخذ لنفسه، تطمع فيه النفوس، ما لا تطمع فى العفيف، ويصلح به الناس فى دينهم ما لا يصلحون بالثانى، فإن العفة مع القدرة تقوى حرمة الدين، وفى الصحيحين عن أبى سفيان بن حرب‏:‏ أن هرقل ملك الروم سأله عن النبى صلى الله عليه وسلم‏:‏ بماذا يأمركم‏؟‏ قال‏:‏ يأمرنا بالصلاة والصدق والعفاف والصلة‏.‏ وفى الأثر‏:‏ أن اللّه أوحى إلى إبراهيم الخليل ـ عليه السلام ـ‏:‏ يا إبراهيم، أتدرى لم اتخذتك خليلا‏؟‏ لأنى رأيت العطاء أحب إليك من الأخذ‏.‏ وهذا الذى ذكرناه فى الرزق، والعطاء الذى هو السخاء، وبذل المنافع، نظيره فى الصبر والغضب، الذى هو الشجاعة ودفع المضار‏.‏

فإن الناس ثلاثة أقسام‏:‏ قسم يغضبون لنفوسهم ولربهم‏.‏ وقسم لا يغضبون لنفوسهم ولا لربهم‏.‏ والثالث ـ وهو الوسط ـ الذى يغضب لربه لا لنفسه، كما فى الصحيحين عن عائشة ـ رضى اللّه عنها ـ قالت‏:‏ ما ضرب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بيده خادماً له، ولا امرأة، ولا دابة، ولا شيئاً قط، إلا أن يجاهد فى سبيل اللّه، ولا /نيل منه شىء فانتقم لنفسه قط، إلا أن تنتهك حرمات اللّه، فإذا انتهكت حرمات اللّه لم يقم لغضبه شىء حتى ينتقم للّه‏.‏

فأما من يغضب لنفسه لا لربه، أو يأخذ لنفسه ولا يعطى غيره، فهذا القسم الرابع، شر الخلق، لا يصلح بهم دين ولا دنيا‏.‏

كما أن الصالحين أرباب السياسة الكاملة، هم الذين قاموا بالواجبات وتركوا المحرمات، وهم الذين يعطون ما يصلح الدين بعطائه، ولا يأخذون إلا ما أبيح لهم، ويغضبون لربهم إذا انتهكت محارمه، ويعفون عن حقوقهم، وهذه أخلاق رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فى بذله ودفعه، وهى أكمل الأمور‏.‏

وكلما كان إليها أقرب، كان أفضل‏.‏ فليجتهد المسلم فى التقرب إليها بجهده، ويستغفر اللّه بعد ذلك من قصوره أو تقصيره بعد أن يعرف كمال ما بعث اللّه ـ تعالى ـ به محمدا صلى الله عليه وسلم من الدين، فهذا فى قول اللّه ـ سبحانه وتعالى ـ‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 58‏]‏‏.‏ واللّه أعلم‏.‏